العزلة تشتد- إسرائيل في مواجهة "تسونامي" أوروبي متصاعد

المؤلف: حلمي مُوسى09.01.2025
العزلة تشتد- إسرائيل في مواجهة "تسونامي" أوروبي متصاعد

لا يتردد صدى في أروقة الصحافة الإسرائيلية والعالمية سوى أصداء القلق العميق والانزعاج المتزايد من شبح العزلة الذي يتهددها، وذلك نتيجة للأساليب الوحشية والهمجية التي تنتهجها في حربها المستمرة منذ ما يربو على تسعة عشر شهرًا.

إن الأمر، من وجهة نظرهم، لا يقتصر على القارة الأوروبية، على الرغم من أهميتها الاستراتيجية والاقتصادية القصوى، بل يتعداه إلى تجاهل واشنطن الصارخ للتحركات والتهديدات الأوروبية المتصاعدة. فالدعم والحماية الأمريكية التي طالما تمتعت بها إسرائيل في المحافل الدولية تشهد تراجعًا ملحوظًا في أوروبا، وقد يمتد هذا التراجع ليشمل الأمم المتحدة أيضًا.

ويذهب بعض المحللين إلى أبعد من ذلك، حيث يرون في التحركات الأوروبية خطوات مُحكمة ومُنسقة مسبقًا مع الإدارة الأمريكية، بهدف ردع إسرائيل وثنيها عن تحقيق أهدافها المعلنة في الحرب. بينما يرى آخرون في توسيع نتنياهو مؤخرًا لأهداف الحرب ليشمل تنفيذ خطة ترامب المثيرة للجدل لتهجير الفلسطينيين قسرًا، عاملًا مُفجرًا يزيد من حدة الأزمة المتفاقمة.

إن الحديث عن التحركات الأوروبية لا يجري بتعبيرات سياسية دبلوماسية معتادة، بل يتم تصويره بمفاهيم كارثية مثل "تسونامي" و"أعاصير" وغيرها من المصطلحات التي تعكس حجم القلق والخوف. فالمشهد الراهن غير مسبوق على الإطلاق من وجهة نظر إسرائيلية، وهو يمس صميم العلاقة الوثيقة التي تربط إسرائيل بالغرب، ويشكك في شرعية ممارساتها وأفعالها.

وعلى الرغم من أن بعض الأصوات اليمينية المتشددة في إسرائيل لا تزال ترفض الاعتراف بما يجري وتركز على ترديد اتهامات معادة للسامية، فإن أغلبية الإسرائيليين ترى التحولات الجذرية في الرأي العام الأوروبي، وتشهد اضطرار حكومات كانت في السابق تقف بقوة إلى جانب إسرائيل، إلى تغيير مواقفها واتخاذ مسارات أخرى.

وبعد مرور أكثر من تسعة عشر شهرًا على الحرب الضروس، تفاجئنا هولندا، التي كانت دائمًا من أشد المؤيدين لإسرائيل، بإعلان خط أحمر ضد استمرار عدوانها، ومطالبتها بإعادة النظر في اتفاقيات الشراكة المبرمة مع إسرائيل. كما أن زعماء فرنسا وبريطانيا وكندا قد رفعوا صوتهم عاليًا بشعار "كفى"، وأعلنوا عن نيتهم دراسة فرض عقوبات على إسرائيل إذا لم توقف حربها المدمرة.

وفي نظر إسرائيل، كان أخطر ما صرحوا به هو تأكيدهم على الأهمية القصوى لمؤتمر السلام المقرر عقده في الشهر المقبل، لأنه "يوفر أفضل فرصة لإنهاء معاناة عائلات المختطفين، وتخفيف وطأة المعاناة عن السكان المدنيين في غزة، وإنهاء حكم حماس، وإرساء مسار نحو حل الدولتين". وأضافوا: "يتعين علينا جميعًا العمل بجد لتنفيذ حل الدولتين، فهو السبيل الوحيد لتحقيق السلام والأمن الدائمين اللذين يحتاجهما الإسرائيليون والفلسطينيون على حد سواء، وضمان الاستقرار طويل الأمد في المنطقة".

كما أعلن رئيس وزراء إسبانيا عن وجوب التصدي للإبادة الجماعية التي يتعرض لها الفلسطينيون في قطاع غزة. وأكد الرئيس الفرنسي أن بلاده ودولًا أخرى سوف تعترف بالدولة الفلسطينية في المؤتمر الدولي الذي سيعقد قريبًا.

وأعلنت خمس وعشرون دولة غربية عن قلقها العميق إزاء الوضع المأساوي الذي يعيشه الفلسطينيون في غزة. وعلى الصعيد العملي، أعلنت بريطانيا تجميد المفاوضات المتعلقة باتفاقية التجارة الحرة مع إسرائيل وفرض عقوبات على زعماء المستوطنين المتطرفين.

كما أعلنت السويد عن عزمها فرض عقوبات على وزراء إسرائيليين، خاصة أولئك الذين يدعون إلى التجويع والتهجير القسري.

وفي ظل هذا الوضع المتأزم، وبدعوة من وزير الخارجية الهولندي، عُقد اجتماع طارئ لوزراء خارجية الاتحاد الأوروبي لمناقشة إلغاء اتفاق الشراكة مع إسرائيل. وقررت سبع عشرة دولة من دول الاتحاد الأوروبي السبع والعشرين المصادقة على إعادة النظر في الاتفاق، لأن الإلغاء الكلي يتطلب إجماعًا، في حين يمكن إلغاء أجزاء من الاتفاق بأغلبية الأصوات.

يدرك الإسرائيليون تمام الإدراك أن ما لعب دورًا محوريًا في تغيير مواقف الحكومات الأوروبية هو التصريحات والمواقف المتطرفة لقادة إسرائيل حول "الإبادة والتهجير والتجويع"، فضلًا عن الاستهداف المتعمد للمدنيين بالقتل والتدمير.

إن هذه التصريحات والأفعال قد أزالت القيود التي كانت تعرقل في الماضي المبادرات الرامية إلى تقييد إسرائيل في الاتحاد الأوروبي. كما أن الضغوط الشعبية المتواصلة منذ ما يزيد على عام ونصف، والمطالبة بالتحرك العاجل لإنقاذ الفلسطينيين، قد قضت على بقايا الدعم الأوروبي التي كانت لا تزال قائمة لحكومة نتنياهو.

فألمانيا، الصديقة المقربة لإسرائيل، تحاول الآن ممارسة نفوذها الدبلوماسي لتبني موقف موحد في بروكسل تجاه إسرائيل، وتطالب بفتح المعابر الحدودية، ووقف الحرب بشكل قاطع، وتدين العملية العسكرية الإسرائيلية.

وقد صرح وزير الخارجية الألماني بأن العملية البرية تثير "قلقًا بالغًا" في ألمانيا. كما وجه وزير الخارجية الإيطالي رسالة أشد قائلًا: "يتعين علينا أن نقول للحكومة الإسرائيلية إن الكيل قد طفح". وأضاف: "نحن لا نريد أن نستمر في رؤية سكان غزة يعانون". وأكد أن الحكومة الإيطالية كانت من أكبر الداعمين لإسرائيل، ولكن حان الوقت للتوقف عن ذلك.

ووفقًا لاستطلاعات الرأي التي نشرتها صحيفة "غلوبس" الإسرائيلية، فإن 42% من الألمان يعتقدون أن إسرائيل تفعل بالفلسطينيين ما فعله النازيون باليهود (استطلاع أجرته مؤسسة بيرتلسمان).

كما أن 50% من الإسبان يطالبون مدريد بـ"بذل المزيد من الجهود لكبح جماح إسرائيل". و56% من السويديين ينظرون إلى إسرائيل بشكل سلبي. و60% من الإيطاليين يعتقدون أن الهجوم الإسرائيلي على غزة "غير مبرر" (بيانات وفقًا لاستطلاعات يوغوف). وعلى الرغم من ذلك، نجحت الحكومات حتى الآن في حماية إسرائيل من الغضب الشعبي المتصاعد.

إسرائيل "دولة منبوذة"

وكما ذكرنا سابقًا، يرى بعض المراقبين في إسرائيل أن الانتقادات الأوروبية اللاذعة، واللغة القاسية المستخدمة، والتهديدات والمطالبات المتزايدة، ليست مجرد رد فعل على الرأي العام المحلي، بل هي نتيجة لدعم ضمني من واشنطن.

فالأوروبيون يرون أن الإدارة الحالية في واشنطن تنتقد أيضًا السياسات الإسرائيلية الحالية، ومن هذا المنطلق، يحاولون استغلال قوتهم ونفوذهم. وعلى الرغم من ردود الفعل الحادة من جانب نتنياهو ووزير خارجيته، جدعون ساعر، على المواقف والتصريحات الأوروبية، فإنهم يأخذون هذه المواقف على محمل الجد، خاصة عندما تكون العلاقة متوترة بعض الشيء مع واشنطن.

فالعواقب الاقتصادية للمواقف الأوروبية وخيمة على إسرائيل لسبب بسيط يتمثل في حقيقة أن أوروبا هي الشريك التجاري الأكبر لإسرائيل بحجم تبادل تجاري يبلغ 50 مليار يورو.

وبحسب الدكتورة مايا سيئون تصدقياهو، من معهد متافيم في الجامعة العبرية، فإن "الرصاصة انطلقت من فوهة البندقية"، "نحن لا نعرف إلى أين ستصل. هذه خطوة تُدهور بشكل أكبر مكانة إسرائيل نحو دولة منبوذة، وتفقدها عددًا من الأصدقاء في أوروبا. هذا السيل حدث بسرعة في الأسابيع الأخيرة، والقرار يمكن أن يشجّع على تسونامي سياسي".

ووفقًا لنصوص الاتفاقيات المبرمة، هناك على الدوام بند يتصل باحترام حقوق الإنسان، وفي هذا السياق تنظر معظم الجهات الأوروبية إلى أن سجل إسرائيل الحافل بالانتهاكات يقود على الفور لاعتبارها: "دولة متمردة".

وحسب إحدى الصحف الإسرائيلية: ما الذي يجب أن تفكر فيه شركة أوروبية عندما تفكر في فتح مصنع في إسرائيل، أو التعاون مع شركة إسرائيلية، في ظل خشيتها من انهيار العلاقات بشكل كامل؟

إعادة النظر في الشراكة

قالت وزيرة خارجية الاتحاد الأوروبي كايا كالاس: إنه في ضوء استمرار وتكثيف الحرب في قطاع غزة، وتفاقم الأزمة الإنسانية في القطاع، فإن الاتحاد سيدرس إمكانية إلغاء اتفاقيات الشراكة التي وقعتها إسرائيل والاتحاد الأوروبي في عام 1995، وهي اتفاقيات إطارية تنظم العلاقات بين الطرفين.

وبحسب الإعلام الإسرائيلي فإن "إعادة النظر" لا تعرض للخطر فقط أهم اتفاقيات التجارة لدولة إسرائيل، والتي تبلغ قيمتها نحو 50 مليار يورو سنويًا، بل إنها تضع علامة استفهام كبيرة على جميع الاتفاقيات الأخرى المبرمة بين إسرائيل والدول الأوروبية.

ومن بين أهم هذه الاتفاقيات برنامج "هورايزن" الرائد للتعاون الذي يقدم مبالغ ضخمة في مجالات العلوم والبحث والتطوير والتكنولوجيا، بين إسرائيل ودول الاتحاد الأوروبي، والذي أيد ما لا يقل عن ثلثيها بالفعل الإعلان.

وقد أعرب رؤساء الجامعات الإسرائيلية عن قلقهم الشديد إزاء تداعيات مثل هذه الخطوة، محذرين من أنها قد تكون غير مسبوقة بالنسبة لمكانة إسرائيل كقوة علمية، وقدرتها على قيادة العالم في الابتكار في جميع مجالات البحث.

وقال رؤساء الجامعات لصحيفة معاريف: "هذه خطوة غير مسبوقة يمكن أن تضر بشكل خطير بالتعاون مع مؤسسات البحث الرائدة في أوروبا، وتؤدي إلى استبعاد الباحثين الإسرائيليين من مجموعات البحث الدولية، وتوقف الاستثمارات البحثية التي يبلغ مجموعها حوالي 1.5 مليار يورو، وهو مبلغ سيكون له تأثير كبير على مستقبل العلوم والابتكار في إسرائيل".

كما أن اتفاقية الشراكة تتصل أيضًا باتفاقية الأجواء المفتوحة، وتبادل الطلاب في إطار برنامج إيراسموس. وحتى لو لم يتم إلغاء اتفاقية الشراكة، فإن الخلاصة التي تنجم عن دراسة المادة الثانية المتعلقة بحقوق الإنسان ستكون: "إسرائيل دولة متمرّدة".

تسونامي سياسي

ومن أشد ما يقلق إسرائيل حاليًا هو الصمت الأمريكي المطبق تجاه المواقف الأوروبية، الأمر الذي يبقيها وحيدة في المواجهة. فلم تصدر واشنطن أي بيان إدانة في أعقاب التهديدات بفرض عقوبات من بريطانيا وفرنسا وكندا، وثمة من يرى أن من قال في الماضي إن "ترامب ألقى بإسرائيل تحت الحافلة"، يجد ما يجري في الساحة الدولية حاليًا تجسيدًا عمليًا لهذا القول.

وما يزيد في القلق هو ماذا ستفعل أمريكا إذا وصلت مطالب إنهاء الحرب إلى مجلس الأمن الدولي؟. وهل ستستخدم في هذه الظروف حق النقض الفيتو في ظل تقارير متكررة تفيد بأن ترامب "ينفد صبره" و"يشعر بالإحباط" من حكومة نتنياهو، بل وهدد بالتخلي عن إسرائيل وفق العديد من التقارير التي تم إنكارها؟

عمومًا، نقل موقع "يديعوت" عن مصدر في وزارة الخارجية قوله: "نواجه تسوناميًا حقيقيًا سيزداد سوءًا. نحن في أسوأ وضع مررنا به على الإطلاق. هذا أسوأ بكثير من كونها كارثة، فالعالم ليس معنا".

وتابع: "منذ نوفمبر/ تشرين الثاني 2023، لم يرَ العالم على شاشات تلفزيونه سوى أطفال فلسطينيين قتلى وهدم منازلهم، وقد ضاق ذرعًا. إسرائيل لا تقدم أي حل، ولا ترتيبات لليوم التالي، ولا أمل. فقط الموت والدمار. المقاطعة الصامتة كانت هنا أولًا، وستزداد حدة. يجب ألا نستخفّ بهذا الأمر. لن يرغب أحد في أن يربط اسمه بإسرائيل".

رغم كل ما سلف، يراهن البعض في إسرائيل على أن أوروبا ستعجز عن فرض رأيها ومقاطعة إسرائيل. ويعتقدون أن ما سيجري هو خطوات من قبيل استدعاء السفراء للتشاور، وفرض عقوبات إضافية ضد المستوطنين المتطرفين، ومواصلة التهديد بتعليق الاتفاقيات التجارية، وهو أمر يمكن عرقلته في الاتحاد الأوروبي بمساعدة أصدقائها هناك، خصوصًا المجر وجمهورية التشيك.

ومع ذلك، فإن التهديدات بفرض عقوبات، والاعتراف بالدولة الفلسطينية سوف تزيد من تعكير الأجواء إلى حد كبير. وهذا ما سيمنح الضوء الأخضر لتعميق "المقاطعة الهادئة" ضد إسرائيل: تجنب العلاقات الاقتصادية من قبل القطاع الخاص، وإلغاء التعاون العلمي والأكاديمي والتكنولوجي، والتخلي عن المشاريع الثقافية والسياحية والبحثية والتطويرية والرياضية وغيرها.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة